فصل: الآية رقم ‏(‏8 ‏:‏ 12‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر ابن كثير **


 سورة يس

 مقدمة

روى الترمذي عن أنَس رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن لكل شيء قلباً، وقلب القرآن يس، ومن قرأ يس كتب اللّه له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات‏)‏ ‏"‏أخرجه الترمذي وقال‏:‏ حديث غريب‏"‏، وروى الحافظ أبو يعلى عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من قرأ يس في ليلة أصبح مغفوراً له، ومن قرأ حم التي يذكر فيها الدخان أصبح مغفوراً له‏)‏ ‏"‏أخرجه الحافظ الموصلي وإسناده جيد كذا قال ابن كثير‏"‏‏.‏ ‏"‏وقال ابن حبان في صحيحه عن جندب بن عبد اللّه رضي اللّه عنه‏"‏ قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من قرأ يس في ليلة ابتغاء وجه اللّه عزَّ وجلَّ غفر له‏)‏‏.‏ وروى الإمام أحمد‏:‏ عن معقل بن يسار رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اقرأوها على موتاكم‏)‏ يعني يس ‏"‏أخرجه أحمد ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه‏"‏‏.‏ ولهذا قال بعض العلماء‏:‏ من خصائص هذه السورة أنها لا تقرأ عند أمر عسير إلا يسره اللّه تعالى، وكأن قراءتها عند الميت لتنزل الرحمة والبركة، وليسهل عليه خروج الروح واللّه تعالى أعلم، قال الإمام أحمد رحمه اللّه‏:‏ كان المشيخة يقولون‏:‏ إذا قرئت - يعني يس - عند الميت خفف اللّه عنه بها، وروى البزار عن ابن عباس قال، قال النبي صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي‏)‏ ‏"‏أخرجه الحافظ البزار‏"‏يعني يس‏.‏

بسم اللّه الرحمن الرحيم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏1 ‏:‏ 7‏)‏

‏{‏ يس ‏.‏ والقرآن الحكيم ‏.‏ إنك لمن المرسلين ‏.‏ على صراط مستقيم ‏.‏ تنزيل العزيز الرحيم ‏.‏ لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون ‏.‏ لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون ‏}‏

قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أول سورة البقرة، وروي عن ابن عباس وهو قول عكرمة والضحاك والحسن وسفيان بن عيينة كذلك أن ‏{‏يس‏}‏ بمعنى يا إنسان، وقال سعيد بن جبير‏:‏ هو كذلك في لغة الحبشة، وقال زيد بن أسلم‏:‏ هو اسم من أسماء اللّه تعالى، ‏{‏والقرآن الحكيم‏}‏ أي المحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ‏{‏إنك‏}‏ أي يا محمد ‏{‏لمن المرسلين * على صراط مستقيم‏}‏ أي على منهج ودين قويم وشرع مستقيم، ‏{‏تنزيل العزيز الرحيم‏}‏ أي هذا الصراط والمنهج والدين الذي جئت به، تنزيل من رب العزة الرحيم بعباده المؤمنين، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط اللّه الذي له ما في السماوات وما في الأرض‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم فهم غافلون‏}‏ يعني بهم العرب، فإنه ما أتاهم من نذير من قبله، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد حق القول على أكثرهم‏}‏، قال ابن جرير‏:‏ لقد وجب العذاب على أكثرهم، بأن اللّه تعالى قد حتم عليهم في أم الكتاب أنهم لا يؤمنون، ‏{‏فهم لا يؤمنون‏}‏ باللّه ولا يصدقون‏.‏

 الآية رقم ‏(‏8 ‏:‏ 12‏)‏

‏{‏ إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون ‏.‏ وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون ‏.‏ وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ‏.‏ إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم ‏.‏ إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ إنا جعلنا هؤلاء المحتوم عليهم بالشقاء، كمن جعل في عنقه غل، فجمع يديه مع عنقه تحت ذقنه، فارتفع رأسه فصار مقمحاً، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فهم مقمحون‏}‏ والمقمح هو الرافع رأسه، كما قالت أم زرع في كلامها‏:‏ وأشرب فأتقمح، أي أشرب فأروى وأرفع رأسي تهنيئاً وتروياً، واكتفى بذكر الغل في العنق عن ذكر اليدين وإن كانت مرادتين، كما قال الشاعر‏:‏

فما أدري إذا يممت أرضاً * أريد الخير أيهما يليني‏.‏

فاكتفى بذكر الخير عن ذكر الشر، لما دل الكلام والسياق عليه، وهكذا هذا، لما كان الغل إنما يعرف فيما جمع اليدين مع العنق اكتفى بذكر العنق عن اليدين، قال ابن عباس‏:‏ هو كقوله عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك‏}‏ يعني بذلك أن أيديهم موثقة إلى أعناقهم لا يستطيعون أن يبسطوها بخير، وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏فهم مقمحون‏}‏ قال‏:‏ رافعي رؤوسهم وأيديهم موضوعة على أفواههم، فهم مغلولون عن كل خير، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلنا من بين أيديهم سداً‏}‏، قال مجاهد عن الحق‏:‏ ‏{‏ومن خلفهم سداً‏}‏ عن الحق فهم يترددون، وقال قتادة‏:‏ في الضلالات، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأغشيناهم‏}‏ أي أغشينا أبصارهم عن الحق ‏{‏فهم لا يبصرون‏}‏ أي لا ينتفعون بخير ولا يهتدون إليه، قال عبد الرحمن بن زيد‏:‏ جعل اللّه تعالى هذا السد بينهم وبين الإسلام والإيمان، فهم لا يخلصون إليه، وقرأ‏:‏ ‏{‏إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم‏}‏، ثم قال‏:‏ من منعه اللّه تعالى لا يستطيع، وقال عكرمة، قال أبو جهل‏:‏ لئن رأيت محمداً لأفعلن ولأفعلن فأنزلت‏:‏ ‏{‏إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً - إلى قوله - فهم لا يبصرون‏}‏ قال‏:‏ وكانوا يقولون هذا محمد، فيقول‏:‏ أين هو أين هو‏؟‏ لا يبصره أخرجه ابن جرير ‏.‏

وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن كعب قال، قال أبو جهل وهم جلوس‏:‏ إن محمداً يزعم أنكم إن تابعتموه كنتم ملوكاً فإذا متم بعثتم بعد موتكم، وكانت لكم جنان خير من جنان الأردن، وإنكم إن خالفتموه كان لكم منه ذبح ثم بعثتم بعد موتكم وكانت لكم ناراً تعذبون بها، وخرج عليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عند ذلك وفي يده حفنة من تراب، وقد أخذ اللّه تعالى على أعينهم دونه، فجعل يذرها على رؤوسهم ويقرأ‏:‏ ‏{‏يس * والقرآن الحكيم - حتى انتهى إلى قوله تعالى - وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون‏}‏، وانطلق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لحاجته وباتوا رصداء على بابه حتى خرج عليهم بعد ذلك خارج من الدار، فقال‏:‏ ما لكم‏؟‏ قالوا‏:‏ ننتظر محمداً، قال‏:‏ قد خرج عليكم، فما بقي منكم من رجل إلا وضع على رأسه تراباً، ثم ذهب لحاجته، فجعل كل رجل منهم ينفض ما على رأسه من التراب، قال‏:‏ وقد بلغ النبي صلى اللّه عليه وسلم قول أبي جهل فقال‏:‏ ‏(‏وأنا أقول ذلك إن لهم مني لذبحاً وإنه لآخذهم‏)‏‏.‏ وقوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون‏}‏ أي قد ختم اللّه عليهم بالضلالة، فما يفيد فيهم الإنذار ولا يتأثرون به، ‏{‏إنما تنذر من اتبع الذكر‏}‏ أي إنما ينتفع بإنذارك المؤمنون الذين يتبعون ‏{‏الذِّكْر‏}‏ وهو القرآن العظيم، ‏{‏وخشي الرحمن بالغيب‏}‏ أي حيث لا يراه أحد إلا اللّه تبارك وتعالى، يعلم أن اللّه مطلع عليه وعالم بما يفعل، ‏{‏فبشره بمغفرة‏}‏ أي لذنوبه ‏{‏وأجر كريم‏}‏ أي كثير واسع حسن جميل كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير‏} أخرجه ابن جرير ‏.‏

ثم قال عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏إنا نحن نحيي الموتى‏}‏ أي يوم القيامة، وفيه إشارة إلى أن اللّه تعالى يحيي قلب من يشاء من الكفار، الذين ماتت قلوبهم بالضلالة، فيهديهم بعد ذلك إلى الحق، كما قال تعالى بعد ذكر قسوة القلوب‏:‏ ‏{‏اعلموا أن اللّه يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونكتب ما قدموا‏}‏ أي من الأعمال، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآثارهم‏}‏ قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ نكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم، وآثارهم التي أثروها من بعدهم، فيجزيهم على ذلك أيضاً إن خيراً فخير وإن شراً فشر، كقوله صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً‏)‏ ‏"‏أخرجه مسلم عن جرير بن عبد اللّه البجلي وهو طويل وفيه قصة مجتابي النمار المضريين‏"‏‏.‏ وهكذا الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث‏:‏ من علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده‏)‏ ‏"‏أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه مرفوعاً‏"‏‏.‏ وقال مجاهد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونكتب ما قدموا وآثارهم‏}‏ قال‏:‏ ما أورثوا من الضلالة، وقال سعيد بن جبير‏:‏ ‏{‏وآثارهم‏}‏ يعني ما أثروا، يقول‏:‏ ما سنوا من سنة فعمل بها قوم من بعد موتهم، وهذا القول هو اختيار البغوي‏.‏ والقول الثاني‏:‏ أن المراد بذلك آثار خطاهم إلى الطاعة أو المعصية، قال مجاهد‏:‏ ‏{‏ما قدموا‏}‏ أعمالهم ‏{‏وآثارهم‏}‏ قال‏:‏ خطاهم بأرجلهم وهو قول الحسن وقتادة ‏.‏ وقال قتادة‏:‏ لو كان اللّه عزَّ وجلَّ مغفلاً شيئاً من شأنك يا ابن آدم أغفل ما تغفل الرياح من هذه الآثار، ولكن أحصى على ابن آدم أثره وعمله كله، حتى أحصى هذا الأثر فيما هو من طاعة اللّه تعالى أو معصيته، فمن استطاع منكم أن يكتب أثره في طاعة اللّه تعالى فليفعل، وقد وردت في هذا المعنى أحاديث‏.‏

الحديث الأول‏:‏ عن جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنهما قال‏:‏ خلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال لهم‏:‏ ‏(‏إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد‏)‏، قالوا‏:‏ نعم يا رسول اللّه قد أردنا ذلك، فقال صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يا بني سلمة‏:‏ دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم‏)‏ ‏"‏أخرجه أحمد والإمام مسلم‏"‏‏.‏ الحديث الثاني‏:‏ عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال‏:‏ كانت بنو سلمة في ناحية من المدينة فأرادوا أن ينتقلوا إلى قريب من المسجد فنزلت‏:‏ ‏{‏إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم‏}‏ فقال لهم النبي صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن آثاركم تكتب‏)‏ فلم ينتقلوا ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم والترمذي وقال الترمذي‏:‏ حسن غريب‏"‏‏.‏ وروى الحافظ البزار، عن أبي سعيد رضي اللّه عنه قال‏:‏ إن بني سلمة شكوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد منازلهم من المسجد فنزلت‏:‏ ‏{‏ونكتب ما قدموا وآثارهم‏}‏ فأقاموا في مكانهم‏.‏ الحديث الثالث‏:‏ عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال‏:‏ كانت الأنصار بعيدة منازلهم من المسجد فأرادوا أن يتحولوا إلى المسجد فنزلت ‏{‏ونكتب ما قدموا وآثارهم‏}‏ فثبتوا في منازلهم ‏"‏أخرجه الطبراني وهو حديث موقوف‏"‏‏.‏ الحديث الرابع‏:‏ عن عبد اللّه بن عمرو رضي للّه عنهما قال‏:‏ توفي رجل بالمدينة فصلى عليه النبي صلى اللّه عليه وسلم، وقال‏:‏ ‏(‏يا ليته مات في غير مولده‏)‏ فقال رجل من الناس‏:‏ ولم يا رسول اللّه‏؟‏ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الرجل إذا توفي في غير مولده قيس له من مولده إلى منقطع أثره في الجنة‏)‏ ‏"‏أخرجه الإمام أحمد والنسائي‏"‏‏.‏ وروى ابن جرير عن ثابت قال‏:‏ مشيت مع أنَس رضي اللّه عنه فأسرعت المشي فأخذ بيدي فمشينا رويداً، فلما قضينا الصلاة قال أنَس‏:‏ مشيت مع زيد بن ثابت فأسرعت المشي، فقال‏:‏ يا أنَس أما شعرت أن الآثار تكتب‏؟‏ وهذا القول لا تنافي بينه وبين الأول، بل في هذا تنبيه ودلالة على ذلك بطريق الأَوْلى والأحرى، فإنه إذا كانت هذه الآثار تكتب فلأن تكتب تلك التي فيها قدوة بهم من خير أو شر بطريق الأولى، واللّه أعلم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكل شيء أحصيناه في إمام مبين‏}‏ أي وجميع الكائنات مكتوب في كتاب مسطور مضبوط في لوح محفوظ، ‏{‏والإمام المبين‏}‏ ههنا هو أم الكتاب، قاله مجاهد وقتادة وكذا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم ندعو كل ناس بإمامهم‏}‏ أي بكتاب أعمالهم الشاهد عليهم بما عملوه من خير أو شر كما قال عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه، ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏13 ‏:‏ 17‏)‏

‏{‏ واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون ‏.‏ إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون ‏.‏ قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون ‏.‏ قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون ‏.‏ وما علينا إلا البلاغ المبين ‏}‏

يقول تعالى واضرب يا محمد لقومك الذين كذبوك ‏{‏مثلاً أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون‏}‏‏.‏ قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس وكعب الأحبار‏:‏ إنها مدينة انطاكية، وكان بها ملك يقال له انطيقس كان يعبد الأصنام، فبعث اللّه تعالى إليه ثلاثة من الرسل وهم صادق و صدوق و شلوم فكذبهم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما‏}‏ أي بادروهما بالكتذيب، ‏{‏فعززنا بثالث‏}‏ أي قويناهما وشددنا أزرهما برسول ثالث قال ابن جريج‏:‏ كان اسم الرسولين شمعون و يوحنا واسم الثالث بولص والقرية انطاكية، وقال ابن كثير‏:‏ وزعم قتادة أنهم كانوا رسل المسيح عليه السلام إلى أهل انطاكية ، ‏{‏فقالوا‏}‏ أي لأهل تلك القرية ‏{‏إنا إليكم مرسلون‏}‏ أي من ربكم الذي خلقكم يأمركم بعبادته وحده لا شريك له، ‏{‏قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا‏}‏ أي فكيف أوحي إليكم وأنتم بشر ونحن بشر‏!‏ فلم لا أوحي إلينا مثلكم‏؟‏ ولو كنتم رسلاً لكنتم ملائمة، وهذه شبهة كثير من الأمم المكذبة، كما أخبر اللّه تعالى عنهم ‏{‏ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا‏}‏‏!‏ أي استعجبوا من ذلك وأنكروه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث اللّه بشراً رسولاً‏}‏‏!‏ ولهذا قال هؤلاء‏:‏ ‏{‏ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون * قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون‏}‏ أي أجابتهم رسلهم الثلاثة قائلين اللّه يعلم أنا رسله إليكم، ولو كنا كذبة عليه لانتقم منا أشد الانتقام، ولكنه سيعزنا وينصرنا عليكم وستعلمون لمن تكون عاقبة الدار كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل كفى باللّه بيني وبينكم شهيداً‏}‏، ‏{‏وما علينا إلا البلاغ المبين‏}‏ يقولون‏:‏ إنما علينا أن نبلغكم ما أرسلنا به إليكم، فإذا أطعتم كانت السعادة في الدنيا والآخرة، وإن لم تجيبوا فستعلمون غب ذلك، واللّه أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏18 ‏:‏ 19‏)‏

‏{‏ قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم ‏.‏ قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون ‏}‏

فعند ذلك قال لهم أهل القرية‏:‏ ‏{‏إنا تطيرنا بكم‏}‏ أي لم نر على وجوهكم خيراً في عيشنا، وقال قتادة‏:‏ يقولون إن أصابنا شر فإنما هو من أجلكم، وقال مجاهد‏:‏ يقولون‏:‏ لم يدخل مثلكم إلى قرية إلا عذب أهلها ‏{‏لئن لم تنتهوا لنرجمنكم‏}‏، قال قتادة‏:‏ بالحجارة، وقال مجاهد‏:‏ بالشتم ‏{‏وليمسنكم منا عذاب أليم‏}‏ أي عقوبة شديدة، فقالت لهم رسلهم‏:‏ ‏{‏طائركم معكم‏}‏ أي مردود عليكم، كقوله تعالى في قوم فرعون‏:‏ ‏{‏وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند اللّه‏}‏، وقال قوم صالح‏:‏ ‏{‏اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند اللّه‏}‏، وقال قتادة ووهب بن منبه‏:‏ أي أعمالكم معكم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أئن ذكّرتم بل أنتم قوم مسرفون‏}‏ أي من أجل هذا أنا ذكرناكم وأمرناكم بتوحيد اللّه وإخلاص العبادة له، قابلتمونا بهذا الكلام وتوعدتمونا وتهددتمونا، ‏{‏بل أنتم قوم مسرفون‏}‏، وقال قتادة‏:‏ أي إن ذكرناكم باللّه تطيرتم منا بل أنتم قوم مسرفون‏.‏

 الآية رقم ‏(‏20 ‏:‏ 25‏)‏

‏{‏ وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين ‏.‏ اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون ‏.‏ وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون ‏.‏ أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون ‏.‏ إني إذا لفي ضلال مبين ‏.‏ إني آمنت بربكم فاسمعون ‏}‏

قال وهب بن منبه‏:‏ إن أهل القرية هموا بقتل رسلهم، فجاءهم رجل من أقصى المدينة يسعى لينصرهم من قومه، قالوا‏:‏ وهو حبيب وكان يعمل الحرير وهو الحباك، وكان رجلاً سقيماً قد أسرع فيه الجذام، وكان كثير الصدقة يتصدق بنصف كسبه مستقيم الفطرة ذكره ابن إسحاق عن كعب الأحبار ووهب بن منبه ، وقال ابن عباس‏:‏ اسم صاحب يس حبيب النجار فقتله قومه، وقال السدي‏:‏ كان قصاراً، وقال قتادة‏:‏ كان يتعبد في غار هناك، ‏{‏قال يا قوم اتبعوا المرسلين‏}‏ يحض قومه على اتباع الرسل الذين أتوهم ‏{‏اتبعوا من لا يسألكم أجراً‏}‏ أي على إبلاغ الرسالة ‏{‏وهم مهتدون‏}‏ فيما يدعونكم إليه عن عبادة اللّه وحده لا شريك له، ‏{‏وما لي لا أعبد الذي فطرني‏}‏ أي وما يمنعني من إخلاص العبادة للذي خلقني وحده لا شريك له، ‏{‏وإليه ترجعون‏}‏ أي يوم المعاد فيجازيكم على أعمالكم إن خيراً فخير وإن شراً فشر، ‏{‏أأتخذ من دونه آلهة‏}‏‏؟‏ استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع ‏{‏إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون‏}‏ أي هذه الآلهة التي تعبدونها من دونه، لا يملكون من الأمر شيئاً، فإن اللّه تعالى لو أرادني بسوء، ‏{‏فلا كاشف له إلا هو‏}‏، وهذه الأصنام لا تملك دفع ذلك ولا منعه، ولا ينقذونني مما أنا فيه ‏{‏إني إذاً لفي ضلال مبين‏}‏ أي إن اتخذتها آلهة من دون اللّه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إني آمنت بربكم فاسمعون‏}‏ قال ابن إسحاق‏:‏ يقول لقومه ‏{‏إني آمنت بربكم‏}‏ الذي كفرتم به ‏{‏فاسمعون‏}‏ أي فاسمعوا قولي، ويحتمل أن يكون خطابه للرسل بقوله ‏{‏إني آمنت بربكم‏}‏ أي الذي أرسلكم ‏{‏فاسمعون‏}‏ أي فاشهدوا لي بذلك عنده، وقد حكاه ابن جرير فقال‏:‏ وقال آخرون‏:‏ بل خاطب بذلك الرسل وقال لهم‏:‏ اسمعوا قولي لتشهدوا لي بما أقول لكم عند ربي، إني آمنت بربكم واتبعتكم، وهذا القول أظهر في المعنى واللّه أعلم، قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس‏:‏ فلما قال ذلك وثبوا عليه وثبة رجل واحد فقتلوه، ولم يكن له أحد يمنع عنه، وقال قتادة‏:‏ جعلوا يرجمونه بالحجارة وهو يقول‏:‏ اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، فلم يزالوا به حتى أقعصوه، وهو يقول كذلك، فقتلوه رحمه اللّه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏26 ‏:‏ 29‏)‏

‏{‏ قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون ‏.‏ بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ‏.‏ وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين ‏.‏ إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون ‏}‏

قال ابن مسعود‏:‏ إنهم وطئوه بأرجلهم حتى خرج قصه من دبره، وقال اللّه له‏:‏ ‏{‏ادخل الجنة‏}‏ فدخلها، فهو يرزق فيها قد أذهب اللّه عنه سقم الدنيا وحزنها ونصبها، وقال مجاهد‏:‏ قيل لحبيب النجار‏:‏ ادخل الجنة، وذلك أنه قتل فوجبت له، فلما رأى الثواب ‏{‏قال يا ليت قومي يعلمون‏}‏ قال قتادة‏:‏ لا تلقى المؤمن إلا ناصحاً ولا تلقاه غاشاً، لما عاين ما عاين من كرامة اللّه تعالى ‏{‏قال يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين‏}‏ تمنى واللّه أن يعلم قومه بما عاين

من كرامة اللّه وما هجم عليه، وقال ابن عباس‏:‏ نصح قومه في حياته بقوله‏:‏ ‏{‏يا قوم اتبعوا المرسلين‏}‏، وبعد مماته في قوله‏:‏ ‏{‏يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين‏}‏ ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي اللّه عنهما‏"‏، وقال سفيان الثوري عن أبي مجلز‏:‏ ‏{‏بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين‏}‏ بإيماني بربي وتصديقي المرسلين، ومقصوده انهم لو اطلعوا على ما حصل لي من هذا الثواب والجزاء والنعيم المقيم، لقادهم ذلك إلى اتباع الرسل، فرحمه اللّه ورضي عنه، فلقد كان حريصاً على هداية قومه‏.‏ وقال محمد بن إسحاق، عن كعب الأحبار أنه ذكر له حبيب بن زيد الذي كان مسيلمة الكذاب قطعه باليمامة، حين جعل يسأل عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فجعل يقول له‏:‏ أتشهد أن محمداً رسول اللّه‏؟‏ فيقول‏:‏ نعم، ثم يقول‏:‏ أتشهد أني رسول اللّه، فيقول‏:‏ لا أسمع، فيقول له مسليمة لعنه اللّه‏:‏ أتسمع هذا ولا تسمع ذاك‏؟‏ فيقول‏:‏ نعم، فجعل يقطعه عضواً عضواً كلما سأله لم يزده على ذلك حتى مات في يديه، فقال كعب حين قيل له اسمه حبيب‏:‏ وكان واللّه صاحب يس اسمه حبيب‏.‏ وقوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين‏}‏ يخبر تعالى أنه انتقم من قومه بعد قتلهم إياه غضباً منه تبارك وتعالى عليهم، لأنهم كذبوا رسله وقتلوا وليه، ويذكر عزَّ وجلَّ أنه ما أنزل عليهم وما احتاج في إهلاكه إياهم إلى إنزال جند من الملائكة عليهم، بل الأمر كان أيسر من ذلك قاله ابن مسعود والمعنى ما كاثرناهم بالجموع، الأمر كان أيسر علينا من ذلك ، ‏{‏إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون‏}‏ فأهلك اللّه تعالى ذلك الملك، وأهلك أهل انطاكية فبادوا عن وجه الأرض، فلم يبق منهم باقية، وقيل‏:‏ ‏{‏وما كنا منزلين‏}‏ أي وما كنا ننزل الملائكة على الأمم إذا أهلكناهم، بل نبعث عليهم عذاباً يدمرهم، وقيل‏:‏ المعنى في قوله تعالى ‏{‏وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء‏}‏ أي من رسالة أُخرى إليهم قاله مجاهد وقتادة وقول ابن مسعود أظهر واللّه أعلم قال قتادة‏:‏ فلا واللّه ما عاتب اللّه قومه بعد قتله ‏{‏إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون‏}‏ قال ابن جرير‏:‏ والأول أصح لأن الرسالة لا تسمى جنداً‏.‏

قال المفسرون‏:‏ بعث اللّه تعالى إليهم جبريل عليه الصلاة والسلام، فأخذ بعضادتي باب بلدهم، ثم صاح بهم صيحة واحدة فإذا هم خامدون عن آخرتهم لم تبق بهم روح تتردد في جسد، وقد تقدم

عن كثير من السلف أن هذه القرية هي انطاكية وأن هؤلاء الثلاثة كانوا رسلاً من عند المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام كما نص عليه قتادة وغيره، وفي ذلك نظر من وجوه‏:‏ أحدها‏:‏ أن ظاهر القصة يدل على أن هؤلاء كانوا رسل اللّه عزَّ وجلَّ لا من جهة المسيح عليه السلام كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون‏}‏، ولو كان هؤلاء من الحواريين لقالوا عبارة تناسب أنهم من عند المسيح عليه السلام، ثم لو كانوا رسل المسيح لما قالوا لهم ‏{‏إن أنتم إلا بشر مثلنا‏}‏‏.‏ الثاني‏:‏ أن أهل انطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم، وكانت أول مدينة آمنت بالمسيح ولهذا كانت عند النصارى إحدى المدائن الأربع اللاتي فيهن بتاركة، وهن القدس لأنها بلد المسيح، و انطاكية لأنها أول بلدة آمنت بالمسيح عن آخر أهلها، و الاسكندرية لأن فيها اصطلحوا على اتخاذ البتاركة والمطارنة والأساقفة والقساوسة، ثم رومية لأنها مدينة الملك قسطنطين الذي نصر دينهم وأوطده، فإذا تقرر أن انطاكية أول مدينة آمنت، فأهل هذه القرية ذكر اللّه تعالى أنهم كذبوا رسله، وأنه أهلكهم بصيحة واحدة أخمدتهم، واللّه أعلم‏.‏ الثالث‏:‏ أن قصة انطاكية مع الحواريين أصحاب المسيح بعد نزول التوراة، وقد ذكر غير واحد من السلف أن اللّه تبارك وتعالى بعد إنزاله التوراة، لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم، بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين، ذكروه عند قوله تبارك وتعالى ‏{‏ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى‏}‏، فعلى هذا يتعين أن هذه القرية المذكورة في القرآن قرية أُخْرى غير انطاكية كما أطلق ذلك غير واحد من السلف أيضاً، أو تكون انطاكية إن كان لفظها محفوظاً في هذه القصة مدينة أُخرى غير هذه المشهورة المعروفة، فإن هذه لم يعرف أنها أهلكت لا في الملة النصرانية ولا قبل ذلك، واللّه سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏30 ‏:‏ 32‏)‏

‏{‏ يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون ‏.‏ ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون ‏.‏ وإن كل لما جميع لدينا محضرون ‏}‏

قال ابن عباس ‏{‏يا حسرة على العباد‏}‏ أي يا ويل العباد، وقال قتادة‏:‏ ‏{‏يا حسرة على العباد‏}‏ أي يا حسرة العباد على أنفسهم، على ما ضيعت من أمر اللّه وفرطت في جنب اللّه، والمعنى‏:‏ يا حسرتهم وندامتهم يوم القيامة إذا عاينوا العذاب، كيف كذبوا رسل اللّه وخالفوا أمر اللّه‏؟‏ فإنهم كانوا ‏{‏ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون‏}‏ أي يكذبونه ويستهزئون به ويجحدون ما أرسل به من الحق، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون‏}‏ أي ألم يتعظوا بمن أهلك اللّه قبلهم من المكذبين للرسل، كيف لم يكن لهم إلى هذه الدنيا كرة ولا رجعة، وقوله عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏وإن كل لّما جميع لدينا محضرون‏}‏ أي وإن جميع الأمم الماضية والآتية، ستحضر للحساب يوم القيامة بين يدي اللّه جلَّ وعلا، فيجازيهم بأعمالهم كلها خيرها وشرها، ومعنى هذا كقوله جلَّ وعلا ‏{‏وإنَّ كلاً لّما ليوفينهم ربك أعمالهم‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏33 ‏:‏ 36‏)‏

‏{‏ وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون ‏.‏ وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ‏.‏ ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون ‏.‏ سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون ‏}‏

يقول تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وآية لهم‏}‏ أي دلالة لهم على وجود الصانع وقدرته التامة وإحيائه الموتى ‏{‏الأرض الميتة‏}‏ أي إذا كانت ميتة هامدة لا شيء فيها من النبات، فإذا أنزل اللّه تعالى عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏أحييناها وأخرجنا منها حبا

فمنه يأكلون‏}‏ أي جعلنا لهم رزقاً لهم ولأنعامهم، ‏{‏وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون‏}‏ أي جعلنا فيها أنهاراً سارحة في أمكنة يحتاجون إليها، ‏{‏ليأكلوا من ثمره‏}‏ لما امتن على خلقه بإيجاد الزروع لهم، عطف بذكر الثمار وتنوعها وأصنافها، وقوله جلَّ وعلا‏:‏ ‏{‏وما

عملته أيديهم‏}‏ أي وما ذاك كله إلا رحمة اللّه تعالى بهم، لا بسعيهم ولا كدهم ولا بحولهم وقوتهم قاله ابن عباس وقتادة فتكون ما في قوله‏:‏ ‏{‏وما عملته أيديهم‏}‏ للنفي ، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏أفلا يشكرون‏}‏ أي فهلا يشكرونه على ما أنعم به عليهم من هذه النعم التي لا تعد ولا تحصى، واختار ابن جرير قوله واختار ابن جرير بل جزم بأن ما اسم موصول بمعنى الذي ولم يحك غيره إلا احتمالاً أن ما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما عملته أيديهم‏}‏ بمعنى الذي تقديره‏:‏ ليأكلوا من ثمره ومما عملته أيديهم، أي غرسوه ونصبوه، قال‏:‏ وهي كذلك في قراءة ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه‏:‏ ‏{‏ليأكلوا من ثمره ومما عملته أيديهم أفلا يشكرون‏}‏، ثم قال تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏سبحان

الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض‏}‏ أي من زروع وثمار ونبات، ‏{‏ومن أنفسهم‏}‏ فجعلهم ذكراً وأنثى ‏{‏ومما لا يعلمون‏}‏ أي من مخلوقات شتى لا يعرفونها كما قال جلت عظمته‏:‏ ‏{‏ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏37 ‏:‏ 40‏)‏

‏{‏ وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون ‏.‏ والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم ‏.‏ والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم ‏.‏ لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ‏}‏ يقول تعالى‏:‏ ومن الدلالة لهم على قدرته تبارك وتعالى العظيمة، خلق الليل والنهار، هذا بظلامه وهذا بضيائه، وجعلهما يتعاقبان، يجيء هذا فيذهب هذا، ويذهب هذا فيجيء هذا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً‏}‏، ولهذا قال عزَّ وجلَّ ههنا‏:‏ ‏{‏وآية لهم الليل نسلخ منه النهار‏}‏ أي نصرمه منه فيذهب فيقبل الليل، ولهذا قال تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏فإذا هم مظلمون‏}‏ كما جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم‏)‏ هذا هو الظاهر من الآية؛ وقوله جل جلاله‏:‏ ‏{‏والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم‏}‏ في معنى قوله‏:‏ ‏{‏لمستقر لها‏}‏ قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن المراد مستقرها المكاني، وهو تحت العرش مما يلي الأرض من ذلك الجانب، وهي أينما كانت فهي تحت العرش، هي وجميع المخلوقات لأنه سقفها، فحينئذ تسجد وتستأذن في الطلوع كما جاءت بذلك الأحاديث، روى البخاري عن أبي ذر رضي اللّه عنه قال‏:‏ كنت مع النبي صلى اللّه عليه وسلم في المسجد عند غروب الشمس، فقال صلى

اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يا أبا ذر أتدري أين تغرب الشمس‏؟‏‏)‏ قلت‏:‏ اللّه ورسوله أعلم، قال صلى اللّه

عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم‏}‏‏)‏، وروى البخاري أيضاً عن أبي ذر رضي اللّه عنه، قال‏:‏ سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن قوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏والشمس تجري لمستقر لها‏}‏ قال صلى اللّه

عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مستقرها تحت العرش‏)‏، وعنه قال‏:‏ كنت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في المسجد حين غربت الشمس، فقال صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يا أبا ذر أتدري أين تذهب الشمس‏)‏‏؟‏ قلت‏:‏ اللّه ورسوله أعلم، قال صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فإنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربها عزَّ وجلَّ، فتستأذن في الرجوع فيؤذن لها، وكأنها قد قيل لها ارجعي من حيث جئت فترجع إلى مطلعها وذلك مستقرها - ثم قرأ - ‏{‏والشمس تجري لمستقر لها‏}‏‏)‏ ‏"‏أخرجه الإمام أحمد عن أبي ذر رضي اللّه عنه‏"‏‏.‏ والقول الثاني‏:‏ أن المراد بمستقرها هو منتهى سيرها وهو يوم القيامة، يبطل سيرها وتسكن حركتها وتكّور وينتهي هذا العالم إلى غايته، وهذا هو مستقرها الزماني، قال قتادة‏:‏ ‏{‏لمستقر لها‏}‏ أي لوقتها ولأجلٍ لا تعدوه، وقيل‏:‏ المراد أنها لا تزال تنتقل في مطالعها الصيفية إلى مدة لا تزيد عليها، ثم تنتقل في مطلع الشتاء إلى مدة لا تزيد عليها هذه رواية عن عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما ، وقرأ ابن مسعود وابن عباس رضي اللّه عنهم والشمس تجري لمستقر لها أي لا قرار لها ولا سكون بل هي سائرة ليلاً ونهاراً لا تفتر ولا تقف، كما قال تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وسخر لكم الشمس والقمر دائبين‏}‏ أي لا يفتران ولا يقفان إلى يوم القيامة، ‏{‏ذلك تقدير العزيز‏}‏ أي الذي لا يخالف ولا يمانع ‏{‏العليم‏}‏ بجميع الحركات والسكنات، وقد قدَّر ذلك ووقَّته على منوال، لا اختلاف فيه ولا تعاكس، كما قال عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏فالق الإصباح وجعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً ذلك تقدير العزيز العليم‏}‏، ثم قال جلَّ وعلا‏:‏ ‏{‏والقمر قدرناه منازل‏}‏ أي جعلناه يسير سيراً آخر، يستدل به على مضي الشهور، كما أن الشمس يعرف بها الليل والنهار، كما قال عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج‏}‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره لتعلموا عدد السنين والحساب‏}‏ الآية، وقال تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلاً‏}‏، فجعل الشمس لها ضوء يخصها، والقمر له نور يخصه، وفاوت بين سير هذه وهذا، فالشمس تطلع كل يوم وتغرب في آخره على ضوء واحد، ولكن تنتقل في مطالعها ومغاربها صيفاً وشتاء، يطول هذا بسبب ذلك النهار ويقصر الليل، ثم يطول الليل ويقصر النهار، وجعل سلطانها بالنهار فهي كوكب نهاري، وأما القمر فقدره منازل يطلع في أول ليلة من الشهر ضيئلاً قليل النور، ثم يزداد نوراً في الليلة الثانية ويرتفع منزلة، ثم كلما ارتفع ازداد ضياء، وإن كان مقتسباً من الشمس، حتى يتكامل نوره في الليلة الرابعة عشرة، ثم يشرع في النقص إلى آخر الشهر، حتى يصير ‏{‏كالعرجون القديم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ وهو أصل العذق، وقال مجاهد ‏{‏العرجون القديم‏}‏‏:‏ أي العذق اليابس، يعني ابن عباس أصل العنقود من الرطب إذا غتق ويبس وانحنى، ثم بعد هذا يبديه اللّه تعالى جديداً في أول الشهر الآخر‏.‏ وقوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر‏}‏ قال مجاهد‏:‏ لكل منهما حد لا يعدوه ولا يقصر دونه، إذا جاء سلطان هذا ذهب هذا، وإذا ذهب سلطان هذا جاء سلطان هذا، وقال الحسن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر‏}‏ قال‏:‏ ذلك ليلة الهلال، وقال الثوري‏:‏ لا يدرك هذا ضوء هذا ولا هذا ضوء هذا، وقال عكرمة في قوله عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر‏}‏ يعني أن لكل منهما سطاناً فلا ينبغي للشمس أن تطلع بالليل، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا الليل سابق النهار‏}‏ يقول‏:‏ لا ينبغي إذا كان الليل أن يكون ليل آخر حتى يكون النهار، فسلطان الشمس بالنهار، وسلطان القمر بالليل، وقال الضحّاك‏:‏ لا يذهب الليل من ههنا حتى يجيء النهار من ههنا وأومأ بيده إلى المشرق، وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏ولا الليل سابق النهار‏}‏ المعنى أنه لا فترة بين الليل والنهار، بل كل منهما يعقب الآخر بلا مهلة ولا تراخ، لأنهما مسخران دائبين يتطالبان طلباً حثيثاً، وقوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وكل في فلك يسبحون‏}‏ يعني الليل والنهار والشمس والقمر كلهم ‏{‏يسبحون‏}‏ أي يدورون في فلك السماء قاله ابن عباس وعكرمة والضحاك والحسن وقتادة وعطاء الخراساني، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ‏{‏في فلك يسبحون‏}‏ في فلك بين السماء والأرض، قال ابن عباس‏:‏ في فلكة كفلكة المغزل، وقال مجاهد‏:‏ الفلك كحديدة الرحى أو كفلكة المغزل، لا يدور المغزل إلا بها ولا تدور إلا به‏.‏

 الآية رقم ‏(‏41 ‏:‏ 44‏)‏

‏{‏ وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون ‏.‏ وخلقنا لهم من مثله ما يركبون ‏.‏ وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون ‏.‏ إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين

‏}‏

يقول تبارك وتعالى‏:‏ ودلالة لهم أيضاً على قدرته تبارك وتعالى، تسخيره البحر ليحمل السفن، فمن دلك بل أوله سفينة نوح عليه الصلاة والسلام، التي أنجاه اللّه تعالى فيها بمن معه من المؤمنين، ولهذا قال عزَّ وجلَّ ‏{‏وآية لهم أنا حملنا ذريتهم‏}‏ أي آباءهم ‏{‏في الفلك المشحون‏}‏ أي في السفينة المملوءة من الأمتعة والحيوانات، التي أمره اللّه تبارك وتعالى أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين، قال ابن عباس ‏{‏المشحون‏}‏ الموقر، وقال الضحّاك وقتادة‏:‏ هي سفينة نوح عليه الصلاة والسلام، وقوله جلَّ وعلا‏:‏ ‏{‏وخلقنا لهم من مثله ما يركبون‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني بذلك الإبل، فإنها سفن البر يحملون عليها ويركبونها؛ وقال السدي في رواية هي الأنعام، وقال ابن جرير‏:‏ عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال‏:‏ أتدرون ما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وخلقنا لهم من مثله ما يركبون‏}‏‏؟‏ قلنا‏:‏ لا، قال‏:‏ هي السفن جعلت من بعد سفينة نوح عليه الصلاة والسلام على مثلها، وكذا قال الضحّاك وقتادة‏:‏ المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وخلقنا لهم من مثله ما يركبون‏}‏ أي السفن، ويقوي هذا المذهب في المعنى قوله جلَّ وعلا‏:‏ ‏{‏إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية * لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية‏}‏، وقوله عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏وإن نشأ نغرقهم‏}‏ يعني الذين في السفن، ‏{‏فلا صريخ لهم‏}‏ أي فلا نغيث لهم مما هم فيه، ‏{‏ولا هم ينقذون‏}‏ أي مما أصابهم، ‏{‏إلا رحمة منا‏}‏ وهذا استثناء منقطع تقديره‏:‏ ولكن برحمتنا نسيركم في البر والبحر ونسلمكم إلى أجل مسمى، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومتاعاً إلى حين‏}‏ أي إلى وقت معلوم عند اللّه عزَّ وجلَّ‏.‏

 الآية رقم ‏(‏45 ‏:‏ 47‏)‏

‏{‏ وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون ‏.‏ وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين ‏.‏ وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عن تمادي المشركين في غيهم وضلالهم، وعدم اكتراثهم بذنوبهم التي أسلفوها، وما يستقبلون بين أيديهم يوم القيامة، ‏{‏وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم‏}‏ قال مجاهد‏:‏ من الذنوب، ‏{‏لعلكم ترحمون‏}‏ أي لعل اللّه باتقائكم ذلك يرحمكم ويؤمنكم من عذابه، وتقدير الكلام أنهم لا يجيبون إلى ذلك بل يعرضون عنه، واكتفى عن ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما تأتيهم من آية من آيات ربهم‏}‏‏:‏ أي على التوحيد وصدق الرسل، ‏{‏إلا كانوا عنها معرضين‏}‏ أي لا يتأملونها ولا يقبلونها ولا ينتفعون بها، وقوله عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم اللّه‏}‏ أي وإذا أمروا بالإنفاق مما رزقهم اللّه على الفقراء والمحاويج من المسلمين ‏{‏قال الذين كفروا للذين آمنوا‏}‏ أي قالوا لمن أمرهم من المؤمنين بالإنفاق، محاجين لهم فيما أمروهم به‏:‏ ‏{‏أنطعم من لو يشاء اللّه أطعمه‏}‏ أي هؤلاء الذين أمرتمونا بالإنفاق عليهم، لو شاء اللّه لأغناهم ولأطعمهم من رزقه، فنحن نوافق مشيئة اللّه تعالى فيهم ‏{‏إن أنتم إلا في ضلال مبين‏}‏ أي في أمركم لنا بذلك‏.‏

 الآية رقم ‏(‏48 ‏:‏ 50‏)‏

‏{‏ ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ‏.‏ ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون ‏.‏ فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ‏}‏

يخبر تعالى عن استبعاد الكفرة لقيام الساعة في قولهم‏:‏ ‏{‏متى هذا الوعد‏}‏، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها‏}‏، قال اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون‏}‏ أي ما ينتظرون إلا صيحة واحدة، وهذه واللّه أعلم ‏(‏نفخة الفزع‏)‏ ينفخ في الصور نفخة الفزع، والناس في أسواقهم ومعايشهم يختصمون ويتشاجرون على عادتهم فبينما هم كذلك إذ أمر اللّه عزَّ وجلَّ إسرافيل فنفخ في الصور نفخة يطولها ويمدّها، فلا يبقى أحد على وجه الأرض إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً، وهي صفحة العنق يتسمع الصوت من قبل السماء، ثم يساق الموجودون من الناس إلى محشر القيامة بالنار تحيط بهم من جوانبهم، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلا يستطيعون توصية‏}‏ أي على ما يملكونه، الأمر أهم من ذلك، ‏{‏ولا إلى أهلهم يرجعون‏}‏، وقد وردت ههنا آثار وأحاديث ذكرناها في موضع آخر، ثم يكون بعد هذا ‏(‏نفخة الصعق‏)‏ التي تموت بها الأحياء كلهم ما عدا الحي القيوم، ثم بعد ذلك ‏(‏نفخة البعث‏)‏ واللّه أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏51 ‏:‏ 54‏)‏

‏{‏ ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون ‏.‏ قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون ‏.‏ إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون ‏.‏ فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون ‏}‏

هذه هي النفخة الثالثة وهي نفخة البعث والنشور للقيام من الأجداث والقبور، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون‏}‏ والنسلان هو المشي السريع، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يخرجون من الأجداث سراعاً‏}‏ الآية، ‏{‏قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا‏}‏‏؟‏ يعنون قبورهم التي كانوا يعتقدون في الدار الدنيا أنهم لا يبعثون من ها، فلما عاينوا ما كذبوا به في محشرهم ‏{‏قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا‏}‏‏؟‏ وهذا لا ينفي عذابهم في قبورهم، لأنه بالنسبة إلى ما بعده في الشدة كالرقاد، قال أبي بن كعب ومجاهد والحسن‏:‏ ينامون نومة قبل البعث، قال قتادة‏:‏ وذلك بين النفختين، فلذلك يقولون‏:‏ ‏{‏من بعثنا من مرقدنا‏}‏ فإذا قالوا ذلك أجابهم المؤمنون‏:‏ ‏{‏هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون‏}‏ وقال الحسن‏:‏ إنما يجيبهم بذلك الملائكة قال ابن كثير‏:‏ ولا منافاة بين القولين إذ الجمع ممكن والقول الأول قاله غير واحد من السلف واللّه أعلم ؛ وقال عبد الرحمن بن زيد‏:‏ الجميع من قول الكفار ‏{‏يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا‏؟‏ هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون‏}‏ نقله ابن جرير، واختار الأول وهو أصح، وذلك كقوله تبارك وتعالى في الصافات‏:‏ ‏{‏قالوا يا ويلنا هذا يوم الدين * هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون‏}‏، كقوله عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏فإنما هي زجرة واحدة فإذا هو بالساهرة‏}‏، وقال جلَّت عظمته‏:‏ ‏{‏وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب‏}‏، وقال جل جلاله ‏{‏يوم يدعوكم فتسجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلاً أي إنما نأمرهم أمراً واحداً فإذا الجميع محضرون، ‏{‏فاليوم لا تظلم نفس شيئاً‏}‏ أي من عملها ‏{‏ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏55 ‏:‏ 58‏)‏

‏{‏ إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون ‏.‏ هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون ‏.‏ لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون ‏.‏ سلام قولا من رب رحيم ‏}‏

يخبر تعالى عن أهل الجنة‏:‏ أنهم إذا ارتحلوا من العرصات، فنزلوا في روضات الجنات، أنهم في شغل عن غيرهم، بما هم فيه من النعيم المقيم، والفوز العظيم، قال الحسن البصري‏:‏ في شغل عما فيه أهل النار من العذاب، وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏في شغل فاكهون‏}‏ أي في نعيم معجبون به، وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏فاكهون‏}‏ أي فرحون، قال ابن مسعود وابن عباس والحسن وقتادة في قوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون‏}‏ قالوا‏:‏ شغلهم افتضاض الأبكار، وقال ابن عباس في رواية عنه‏:‏ ‏{‏في شغل فاكهون‏}‏ أي بسماع الأوتار قال أبو حاتم‏:‏ لعله غلط من المستمع وإنما هو افتضاض الأبكار ، وقوله عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏هم وأزواجهم‏}‏ قال مجاهد‏:‏ وحلائلهم ‏{‏في ظلال‏}‏ أي في ظلال الأشجار ‏{‏على الأرائك متكئون‏}‏ قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة ‏{‏الأرائك‏}‏ هي السرر تحت الحجال، وقوله عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏لهم فيها فاكهة‏}‏ أي من جميع أنواعها ‏{‏ولهم ما يدعون‏}‏ أي مهما طلبوا وجدوا من جميع أصناف الملاذ، عن أسامة بن زيد رضي اللّه عنهما قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ألا هل مشمر إلى الجنة‏!‏ فإن الجنة لا خطر لها، هي ورب الكعبة نور كلها يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وثمرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، ومقام في أبد في دار سلامة، وفاكهة خضرة، وخير ونعمة في محلة عالية بهية‏)‏، قالوا‏:‏ نعم يا رسول اللّه نحن المشمرون لها، قال صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قولوا إن شاء اللّه‏(‏ فقال القوم‏:‏ إن شاء اللّه ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم ورواه ابن ماجه في كتاب الزهد من سننه‏"‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سلام قولاً من رب رحيم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ فإن اللّه تعالى نفسه سلام على أهل الجنة، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تحيتهم يوم يلقونه سلام‏}‏، وقد روي عن جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنهما قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع عليهم نور فرفعوا رؤوسهم، فإذا الرب تعالى قد أشرف عليهم من فوقهم فقال‏:‏ السلام عليكم يا أهل الجنة، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سلام قولاً من رب رحيم‏}‏، قال‏:‏ فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه، حتى يحتجب عنهم، ويبقى نوره وبركته عليهم وفي ديارهم‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم، قال ابن كثير‏:‏ وفي إسناده نظر، ورواه ابن ماجه في كتاب السنّه من سننه‏"‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏59 ‏:‏ 62‏)‏

‏{‏ وامتازوا اليوم أيها المجرمون ‏.‏ ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين ‏.‏ وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ‏.‏ ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عما يؤول إليه حال الكفار يوم القيامة، من أمره لهم أن يمتازوا بمعنى يتميزوا عن المؤمنين في موقفهم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم‏}‏، وقال عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون‏}‏، وقال ‏{‏يومئذ يصّدعون‏}‏ أي يصيرون صدعين فرقتين، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدّو مبين‏}‏ هذا تقريع من اللّه تعالى للكفرة من بني آدم، الذين أطاعوا الشيطان وهو عدّو لهم مبين، وعصوا الرحمن وهو الذي خلقهم ورزقهم، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم‏}‏ أي قد أمرتكم في دار الدنيا بعصيان الشيطان وأمرتكم بعبادتي، وهذا هو الصراط المستقيم، فسلكتم غير ذلك واتبعتم الشيطان فيما أمركم به، ولهذا قال عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً‏}‏ يقال‏:‏ جبلاً بكسر الجيم وتشديد اللام، والمراد بذلك الخلق الكثير، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفلم تكونوا تعقلون‏}‏ أي أفما كان لكم عقل في مخافة ربكم فيما أمركم به وعدو لكم إلى اتباع الشيطان‏؟‏ عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا كان يوم القيامة أمر اللّه تعالى جهنم فيخرج منها عنق ساطع مظلم يقول‏:‏ ‏{‏وامتازوا اليوم أيها المجرمون‏}‏ فيتميز الناس ويجثون، وهي التي يقول اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها

اليوم تجزون ما كنتم تعملون‏}‏‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن جرير عن أبي هريرة مرفوعاً‏"‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏63 ‏:‏ 67‏)‏

‏{‏ هذه جهنم التي كنتم توعدون ‏.‏ اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون ‏.‏ اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ‏.‏ ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون ‏.‏ ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون ‏}‏

يقال للكفرة من بني آدم يوم القيامة وقد برزت الجحيم لهم تقريعاً وتوبيخاً ‏{‏هذه جهنم التي كنتم توعدون‏}‏ أي هذه التي حذرتكم الرسل فكذبتموهم، ‏{‏اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون‏}‏، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يدّعون إلى نار جهنم دعّاً هذه النار التي كنتم بها تكذبون‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون‏}‏، هذا حال الكفار والمنافقين يوم القيامة حين ينكرون ما اجترموه في الدنيا ويحلفون ما فعلوه، فيختم اللّه على أفواههم ويستنطق جوارحهم بما عملت، عن أنَس بن مالك رضي اللّه عنه قال‏:‏ كنا عند النبي صلى اللّه عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أتدرون مم أضحك‏؟‏‏)‏ قلنا‏:‏ اللّه ورسوله أعلم، قال صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من مجادلة العبد ربه يوم القيامة، يقول‏:‏ رب ألم تجرني من الظلم‏؟‏ فيقول‏:‏ بلى، فيقول‏:‏ لا أجيز عليَّ إلا شاهداً من نفسي، فيقول‏:‏ كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً، وبالكرام الكاتبين شهوداً، فيختم على فيه، ويقال لأركانه‏:‏ انطقي، فتنطق بعمله، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول‏:‏ بعداً لكن وسحقاً، فعنكن كنت أناضل‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم ورواه مسلم والنسائي بنحوه‏"‏‏.‏ وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في حديث القيامة الطويل قال فيه‏:‏ ‏(‏ثم يلقى الثالث فيقول‏:‏ ما أنت‏؟‏ فيقول‏:‏ أنا عبدك آمنت بك وبنبيك وبكتابك وصمت وصلّيت وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع - قال - فيقال له ألا نبعث عليك شاهدنا‏؟‏ - قال‏:‏ فيفكر في نفسه من الذي يشهد عليه، فيختم على فيه، ويقال‏:‏ لفخذه انطقي - قال - فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بما كان يعمل، وذلك المنافق، وذلك ليعذر من نفسه، وذلك الذي يسخط اللّه تعالى عليه‏)‏ ‏"‏أخرجه مسلم وأبو داود عن أبي هريرة بطوله‏"‏‏.‏

وروى ابن جرير عن أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه قال‏:‏ يدعى المؤمن للحساب يوم القيامة، فيعرض عليه ربه عمله فيما بينه وبينه فيعترف فيقول‏:‏ نعم أي رب عملت عملت عملت، قال‏:‏ فيغفر اللّه تعالى له ذنوبه ويستره منه، قال‏:‏ فما على الأرض خليقة ترى من تلك الذنوب شيئاً، وتبدو حسناته فود الناس كلهم يرونها، ويدعى الكافر والمنافق للحساب فيعرض عليه ربه عمله فيجحد، ويقول‏:‏ أي رب وعزتك، لقد كتب عليَّ هذا الملك ما لم أعمل، فيقول له الملك‏:‏ أما عملت كذا في يوم كذا في مكان كذا‏؟‏ فيقول‏:‏ لا وعزتك أي رب ما عملته، فإذا فعل ذلك ختم اللّه تعالى على فيه، قال أبو موسى الأشعري رضي اللّه عنه‏:‏ فإني أحسب أول ما ينطق منه الفخذ اليمنى، ثم تلا‏:‏ ‏{‏اليوم نختم على أفواهم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون‏}‏ ‏"‏أخرجه ابن جرير وهو حديث موقوف على أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه‏"‏‏.‏ وقوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون‏}‏، قال ابن عباس في تفسيرها يقول‏:‏ ولو نشاء لأضللناهم عن الهدى فكيف يهتدون‏؟‏ وقال مرة‏:‏ أعميناهم، وقال الحسن البصري‏:‏ لو شاء اللّه لطمس على أعينهم، فجعلهم عمياً يترددون، وقال السدي‏:‏ ولو نشاء أعمينا أبصارهم، وقال مجاهد وقتادة والسدي‏:‏ ‏{‏فاستبقوا الصراط‏}‏ يعني الطريق، وقال ابن زيد يعني بالصراط ههنا الحق فأنى يبصرون وقد طمسنا على أعينهم‏؟‏ وقال ابن عباس ‏{‏فأنى يبصرون‏}‏ لا يبصرون الحق، وقوله عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أهلكناهم، وقال السدي‏:‏ يعني لغيرنا خلقهم، وقال أبو صالح‏:‏ لجعلناهم حجارة، وقال الحسن البصري وقتادة‏:‏ لأقعدهم على أرجلهم، ولهذا قال تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏فما استطاعوا مضياً‏}‏ أي إلى الأمام ‏{‏ولا يرجعون‏}‏ إلى وراء، بل يلزمون حالاً واحداً لا يتقدمون ولا يتأخرون‏.‏

 الآية رقم ‏(‏68 ‏:‏ 70‏)‏

‏{‏ ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون ‏.‏ وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين ‏.‏ لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين ‏}‏ يخبر تعالى عن ابن آدم أنه كلما طال عمره، ردّ إلى الضعف بعد القوة، والعجز بعد النشاط، كما قال تعالى ‏{‏اللّه خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير‏}‏، وقال عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً‏}‏، والمراد من هذا - واللّه أعلم - الإخبار عن هذ الدار، بأنها دار زوال وانتقال، لا دار دوام واستقرار، ولهذا قال عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏أفلا يعقلون‏}‏‏؟‏ أي يتفكرون بعقولهم في ابتداء خلقهم، ثم صيرورتهم إلى سن الشيبة، ثم إلى الشيخوخة، ليعلموا أنهم خلقوا لدار أخرى، لا زوال لها ولا انتقال منها، ولا محيد عنها وهي الدار الآخرة، وقوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وما علمناه الشعر وما ينبغي له‏}‏، يقول عزَّ وجلَّ مخبراً عن نبيّه محمد صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ أنه ما علمه الشعر ‏{‏وما ينبغي له‏}‏ أي ما هو في طبعه فلا يحسنه ولا يحبه ولا تقتضيه جبلته، ولهذا ورد أنه صلى اللّه عليه وسلم كان لا يحفظ بيتاً على وزن منتظم، بل إن أنشده زحفه أو لم يتمه، قال الشعبي‏:‏ ما ولد عبد المطلب ذكراً ولا أنثى إلا يقول الشعر، إلا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذكره ابن عساكر عن الشعبي ‏.‏ وعن الحسن البصري قال‏:‏ إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت‏:‏ كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهياً ، فقال أبو بكر رضي اللّه عنه‏:‏ يا رسول اللّه، كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً قال أبو بكر أو عمر رضي اللّه عنهما‏:‏ أشهد أنك رسول اللّه، يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وما علمناه الشعر وما ينبغي له‏}‏ ‏"‏ذكره ابن أبي حاتم عن الحسن البصري‏"‏‏.‏ وروى الأموي في مغازيه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جعل يمشي بين القتلى يوم بدر، وهو يقول‏:‏ ‏(‏نَفَلِّق هاماً‏)‏، فيقول الصدّيق رضي اللّه عنه متمماً للبيت‏:‏

‏.‏‏.‏‏.‏ من رجال أعزة * علينا وهم كانوا أعق وأظلما‏.‏

وعن عائشة رضي اللّه عنها قالت‏:‏ كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا استراب الخبر تمثل فيه ببيت طرفة‏:‏

ويأتيك بالأخبار من لم تزود ‏"‏أخرجه الإمام أحمد والنسائي والترمذي وقال الترمذي‏:‏ حديث حسن صحيح‏"‏‏.‏

وهو في شعر طرفة بن العبد في معلقته المشهورة‏:‏

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً * ‏(‏ويأتيك بالأخبار من لم تزود‏)‏‏.‏

وثبت في الصحيح أنه صلى اللّه عليه وسلم تمثل يوم حفر الخندق بأبيات عبد اللّه بن رواحة رضي اللّه عنه، ولكن تبعاً لقول أصحابه رضي اللّه عنهم، فإنهم كانوا يرتجزون وهم يحفرون فيقولون‏:‏

اللهم لولا أنت ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا * وثبت الأقدام إن لاقينا

إن أولاء قد بغوا علينا * إذا أرادوا فتنة أبينا‏.‏

ويرفع صلى اللّه عليه وسلم صوته يقوله‏:‏ أبينا، ويمدها، وقدر روى هذا بزحاف في الصحيحين أيضاً، وكذا ثبت أنه صلى اللّه عليه وسلم قال يوم حنين وهو راكب البغلة يقدم بها في نحور العدو‏:‏

أنا النبي لا كذب * أنا ابن عبد المطلب‏.‏

لكن قالوا‏:‏ هذا وقع اتفاقاً من غير قصد لوزن شعر، بل جرى على اللسان من غير قصد إليه، وكذلك كا ثبت في الصحيحين عن جندب بن عبد اللّه رضي اللّه عنه قال‏:‏ كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غار، فنكبت اصبعه، فقال صلى اللّه عليه وسلم‏:‏

هل أنت إلا اصبع دميت * وفي سبيل اللّه ما لقيت‏.‏

وكل هذا لا ينافي كونه صلى اللّه عليه وسلم ما علم شعراً وما ينبغي له، فإن اللّه تعالى إنما علمه القرآن العظيم ‏{‏الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد‏}‏، وليس هو بشعر كما زعمه طائفة من جهلة كفار قريش، ولا كهانة ولا سحر يؤثر، كما تنوعت فيه أقوال الضلال وآراء الجهال، وقد كانت سجيته صلى اللّه عليه وسلم تأبى صناعة الشعر طبعاً وشرعاً‏.‏ قال صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً‏)‏ ‏"‏أخرجه الإمام أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً، قال ابن كثير‏.‏ وإسناده على شرط الشيخين ولم يخرجاه‏"‏‏.‏

على أن الشعر فيه ما هو مشروع وهو هجاء المشركين، الذي كان يتعاطاه شعراء الإسلام، كحسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد اللّه بن رواحة وأمثالهم وأضرابهم رضي اللّه عنهم أجمعين، ومنه ما فيه حكم ومواعظ وآداب، كما يوجد في شعر جماعة من الجاهلية، ومنهم أمية ابن أبي الصلت الذي قال فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏آمن شعره وكفر قلبه‏)‏، وقد أنشد بعض الصحابة رضي اللّه عنهم للنبي صلى اللّه عليه وسلم مائة بيت يقول صلى اللّه عليه وسلم عقب كل بيت‏:‏ ‏(‏هيه‏)‏، يعني يستطعمه فيزيده من ذلك، وفي الحديث‏:‏ ‏(‏إن من البيان سحراً وإن من الشعر حكماً‏)‏ ‏"‏أخرجه أبو داود من حديث أبي بن كعب وابن عباس رضي اللّه عنهما‏"‏، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما علمناه الشعر‏}‏ يعني محمداً صلى اللّه عليه وسلم ما علمه اللّه الشعر، ‏{‏وما ينبغي له‏}‏ أي وما يصلح له ‏{‏إن هو إلا ذكر وقرآن مبين‏}‏ أي ما هذا الذي علمناه ‏{‏إلا ذكر وقرآن مبين‏}‏ أي بين واضح جلي لمن تأمله وتدبره، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏لينذر من كان حياً‏}‏ أي لينذر هذا القرآن المبين كل حي على وجه الأرض، كقوله‏:‏ ‏{‏لأنذركم به ومن بلغ‏}‏، وإنما ينتفع بنذارته من هو حي القلب مستنير البصيرة، كما قال قتادة‏:‏ جي القلب، حي البصر، وقال الضحّاك‏:‏ يعني عاقلاً، ‏{‏ويحق القول على الكافرين‏}‏ أي وهو رحمة للمؤمنين وحجة على الكافرين‏.‏

 الآية رقم ‏(‏71 ‏:‏ 73‏)‏

‏{‏ أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون ‏.‏ وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ‏.‏ ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون ‏}‏ يذكر تعالى ما أنعم به على خلقه من هذه الأنعام التي سخرها لهم ‏{‏فهم لها مالكون‏}‏ قال قتادة‏:‏ مطيقون أي جعلهم يقهرونها وهي ذليلة لهم، لا تمتنع منهم بل لو جاء صغير إلى بعير لأناخه،

ولو شاء لأقامه وساقه وذاك ذليل منقاد معه، وكذا لو كان القطار مائة بعير أو أكثر لسار الجميع بسير الصغير، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمنها ركوبهم ومنها يأكلون‏}‏ أي منها ما يركبون في الأسفار، ويحملون عليه الأثقال إلى سائر الجهات والأقطار، ‏{‏ومنها يأكلون‏}‏ إذا شاءوا نحروا واجتزروا، ‏{‏ولهم فيها منافع‏}‏ أي من أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين ‏{‏ومشارب‏}‏ أي من ألبانها وأبوالها لمن يتداوى ونحو ذلك، ‏{‏أفلا يشكرون‏}‏‏؟‏ أي أفلا يوحدون خالق ذلك ومسخره ولا يشركون به غيره‏؟‏

 الآية رقم ‏(‏74 ‏:‏ 76‏)‏

‏{‏ واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون ‏.‏ لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون ‏.‏ فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون ‏}‏

يقول تعالى منكراً على المشركين في اتخاذهم الأنداد آلهة مع اللّه، يبتغون بذلك أن تنصرهم تلك الآلهة، وترزقهم وتقربهم إلى اللّه زلفى، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏لا يستطيعون نصرهم‏}‏ أي لا تقدر الآلهة على نصر عابديها، بل هي أضعف من ذلك وأقل وأذل، وأحقر وأدحر، بل لا تقدر على الاستنصار لأنفسها ولا الانتقام ممن أرادها بسوء، لأنها جماد لا تسمع ولا تعقل، وقوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وهم لهم جند محضرون‏}‏، قال مجاهد‏:‏ يعني عند الحساب يريد أن هذه الأصنام محشورة مجموعة يوم القيامة محضرة عند حساب عابديها، ليكون ذلك أبلغ في حزنهم وأدل عليهم في إقامة الحجة عليهم، وقال قتادة‏:‏ ‏{‏لا يستطيعون نصرهم‏}‏ يعني الآلهة، ‏{‏وهم لهم جند محضرون‏}‏ والمشركون يغضبون للآلهة في الدنيا، وهي لا تسوق إليهم خيراً ولا تدفع عنهم شراً إنما هي أصنام وهكذا قال الحسن البصري وهو اختيار ابن جرير رحمه اللّه ، وهذا القول حسن، وهو اختيار ابن جرير، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا يحزنك قولهم‏}‏ أي تكذيبهم لك وكفرهم باللّه، ‏{‏إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون‏}‏ أي نحن نعلم جميع ما هم فيه وسنجزيهم وصفهم، يوم لا يفقدون من أعمالهم جليلاً ولا حقيراً، ولا صغيراً ولا كبيراً، بل يعرض عليهم جميع ما كانوا يعملون قديماً وحديثاً‏.‏

 الآية رقم ‏(‏77 ‏:‏ 80‏)‏

‏{‏ أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين ‏.‏ وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم ‏.‏ قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم ‏.‏ الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون ‏}‏

قال مجاهد وعكرمة‏:‏ جاء أبي بن خلف لعنه اللّه، إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفي يده عظم رميم، وهو يفته ويذروه في الهواء، وهو يقول‏:‏ يا محمد أتزعم أن اللّه يبعث هذا‏؟‏ قال صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏نعم، يميتك اللّه تعالى ثم يبعثك ثم يحشرك إلى النار‏)‏، ونزلت هذه الآيات من آخر يس‏:‏ ‏{‏أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة‏}‏ إلى آخرهن، وقال ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال‏:‏ إن العاص بن وائل أخذ عظماً من البطحاء ففته بيده ثم قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ أيحيي اللّه هذا بعد ما أرى‏؟‏ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏نعم، يميتك اللّه ثم يحييك ثم يدخلك جهنم‏)‏، قال‏:‏ ونزلت الآيات من آخر يس، وعلى كل تقدير سواء كانت هذه الآيات قد نزلت في أُبي بن خلف أو العاص بن وائل أو فيهما، فهي عامة في كل من أنكر البعث، والألف واللام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولم ير الإنسان‏}‏ للجنس يعم كل منكر للبعث، ‏{‏أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين‏}‏ أي أو لم يستدل من أنكر البعث بالبدء على الإعادة، فإن اللّه ابتدأ خلق الإنسان من سلالة من ماء مهين، فخلقه من شيء حقير ضعيف مهين، كما قال عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏ألم نخلقكم من ماء مهين‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج‏}‏ أي من نطفة من أخلاط متفرقة، فالذي خلقه من هذه النطفة الضعيفة أليس بقادر على إعادته بعد موته‏؟‏ كما قال الإمام أحمد في مسنده عن بشر بن جحاش قال‏:‏ إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بصق يوماً في كفه فوضع عليها إصبعه، ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قال اللّه تعالى‏:‏ ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين برديك وللأرض منك وئيد، فجمعت ومنعت، حتى إذا بلغت التراقي قلت‏:‏ أتصدق وأنّى أوان الصدقة‏؟‏‏)‏ ‏"‏أخرجه الإمام أحمد ورواه ابن ماجه في سننه‏"‏، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم‏}‏‏؟‏ أي استبعد إعادة اللّه تعالى ذي القدرة العظيمة، للأجساد والعظام الرميمة، ونسي نفسه وأن اللّه تعالى خلقه من العدم إلى الوجود، فعلم

من نفسه ما هو أعظم مما استبعده وأنكره وجحده، ولهذا قال عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق‏}‏ أي يعلم العطام في سائر أقطار الأرض وأرجائها، أين ذهبت وأين تفرقت وتمزقت‏.‏

قال الإمام أحمد، قال عقبة بن عمرو لحذيفة رضي اللّه عنهما‏:‏ ألا تحدثنا ما سمعت من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏؟‏ فقال‏:‏ سمعته صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن رجلاً حضره الموت فلما أيس من الحياة أوصى أهله إذا أنا مت فاجمعوا لي حطباً كثيراً جزلاً، ثم أوقدوا فيه ناراً، حتى إذا أكلت لحمي وخلصت إلى عظمي، فامتحشت أي‏:‏ فاحترقت فخذوها فدقوها فذروها في اليم، ففعلوا، فجمعه اللّه تعالى إليه، ثم قال له‏:‏ لم فعلت ذلك‏؟‏ قال‏:‏ من خشيك، فغفر اللّه عزَّ وجلَّ له‏)‏، وفي الصحيحين بأنه أمر بنيه أن يحرقوه، ثم يسحقوه، ثم يذروا نصفه في البر ونصفه في البحر في يوم رائح، أي كثير الهواء، ففعلوا ذلك، فأمر اللّه تعالى البحر فجمع ما فيه وأمر البر فجمع ما فيه، ثم قال له‏:‏ كن فإذا هو رجل قائم، فقال له‏:‏ ما حملك على ما صنعت‏؟‏ قال‏:‏ مخافتك وأنت أعلم، فما تلافاه أن غفر له‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون‏}‏ أي الذي بدأ خلق هذا الشجر من ماء، حتى صار خضراً نضراً ذا ثمر وينع، ثم أعاده إلى أن صار حطباً يابساً توقد به النار، كذلك هو فعال لما يشاء قارد على ما يريد لا يمنعه شيء، قال قتادة‏:‏ يقول‏:‏ هذا الذي أخرج هذه النار من هذا الشجر قادر على أن يبعثه، وقيل‏:‏ المراد بذلك شجر المرخ والغفار ينبت في أرض الحجاز فيأتي من أراد قدح نار وليس معه زناد، فيأخذ منه عودين أخضرين، ويقدح أحدهما بالآخر، فتتولد النار بينهما كالزناد سواء، وفي المثل‏:‏ لكل شجر نار واستمجد المرخ والغفار، وقال الحكماء‏:‏ في كل شجر نار إلا العنَّاب‏.‏

 الآية رقم ‏(‏81 ‏:‏ 83‏)‏

‏{‏ أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم ‏.‏ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ‏.‏ فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون ‏}‏

يقول تعالى مخبراً منبهاً على قدرته العظيمة، في خلق السماوات السبع بما فيها من الكواكب السيارة والثوابت، والأرضين السبع وما فيها من جبال ورمال وبحار وقفار وما بين ذلك، ومرشداً إلى الاستدلال على إعادة الأجساد بخلق هذه الأشياء العظيمة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس‏}‏ وقال عزَّ وجلَّ ههنا ‏{‏أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم‏؟‏‏}‏ أي مثل البشر فيعيدهم كما بدأهم، وهذه الآية الكريمة كقوله عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏أو لم يروا أن اللّه الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى‏؟‏ بلى إنه على كل شيء قدير‏}‏، وقال تبارك وتعالى ههنا‏:‏ ‏{‏بلى وهو الخلاق العليم * إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون‏}‏ أي إنما يأمر بالشيء أمراً واحداً لا يحتاج إلى تكرار وتأكيد كما قيل‏:‏

إذا ما أراد اللّه أمراً فإنما * يقول له ‏{‏كن‏}‏ قولةً ‏{‏فيكون‏}‏‏.‏

عن أبي ذر رضي اللّه عنه، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن اللّه تعالى يقول يا عبادي كلكم مذنب إلا من عافيت، فاستغفروني أغفر لكم، وكلكم فقير إلا من أغنيت، إني جوّاد ماجد واجد أفعل ما أشاء، عطائي كلام، وعذابي كلام، إذا أردت شيئاً فإنما أقول له كن فيكون‏)‏ ‏"‏أخرجه الإمام أحمد عن أبي ذر مرفوعاً‏"‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون‏}‏ أي تنزيه وتقديس للحي القيوم، الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، وإليه ترجع العباد يوم المعاد فيجازي كل عامل بعمله، وهو العادل المنعم المتفضل، ومعنى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء‏}‏ كقوله عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏تبارك الذي بيده الملك‏}‏ فالملك والملكوت واحد في المعنى كرحمة ورحموت، ورهبة ورهبوت، ومن الناس من زعم أن ‏{‏الملك‏}‏ هو عالم الأجساد، و الملكوت هو عالم الأرواح، والصحيح الأول، وهو الذي عليه الجمهور من المفسرين وغيرهم‏.‏ روى الإمام أحمد، عن حذيفة بن اليمان رضي اللّه عنه قال‏:‏ قمت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذات ليلة فقرأ السبع الطوال في ركعات، كان النبي صلى اللّه عليه

وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال‏:‏ ‏(‏سمع اللّه لمن حمده، ثم قال‏:‏ الحمد للّه، ذي الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة، وكان ركوعه مثل قيامه، وسجوده مثل ركوعه، فانصرف وقد كادت تنكسر رجلاي‏)‏ ‏"‏أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي بنحوه‏"‏‏.‏ عن عوف بن مالك الأشجعي رضي اللّه عنه قال‏:‏ قمت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليلة فقام، فقرأ سورة البقرة، لا يمر بآية رحمة إلا وقف وسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف وتعوذ، قال‏:‏ ثم ركع بقدر قيامه، يقول في ركوعه‏:‏ ‏(‏سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة‏)‏، ثم سجد بقدر قيامه، ثم قال في سجوده مثل ذلك، ثم قام فقرأ بآل عمران، ثم قرأ سورة ‏"‏أخرجه أبو داود في سننه، والترمذي في الشمائل والنسائي عن عوف بن مالك الأشجعي‏"‏‏.‏